فصل: فصل: أركان الحج

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكافي في فقه الإمام أحمد ***


باب‏:‏ جزاء الصيد

يجب الجزاء في الصيد لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم‏}‏ الآية وهو ضربان‏:‏

ما له مثل من النعم‏:‏ وهي بهيمة الأنعام فيجب فيه مثله للآية وهو نوعان ما قضت الصحابة فيه فيجب فيه ما قضت لأنه حكم مجتهد فيه واجتهادهم أحق أن يتبع‏.‏

فمن ذلك الضبع قضى فيها عمر وابن عباس بكبش وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيها بذلك رواه أبو داود وغيره وقال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏

والنعامة قضى فيها عثمان وعلي وزيد وابن عباس ومعاوية ببدنة‏.‏

وحمار الوحش وفيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ فيه بقرة لأن عمر قضى فيه بها‏.‏

والثانية‏:‏ فيه بدنة لأن أبا عبيدة وابن عباس قضيا فيه بها وقضاء عمر أولى لأنه أقرب إلى ما قضي به وعن ابن مسعود أنه قضى في بقرة الوحش ببقرة‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ في الإبل بقرة وقال ابن عمر‏:‏ في الأروى بقرة‏.‏

وقضى عمر في الظبي بشاة وفي اليربوع بجفرة وهي التي لها أربعة أشهر في المعز‏.‏

وفي الأرنب بعناق وهي أصغر من الجفرة وفي الضب بجدي‏.‏

والضرب الثاني‏:‏ ما لم تقض فيه الصحابة فيرجع فيه إلى قول عدلين من أهل الخبرة لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏يحكم به ذوا عدل منكم‏}‏ ويجوز أن يكون القاتل أحدهما‏:‏ لدخوله في العموم ولما روى طارق بن شهاب قال‏:‏ خرجنا حجاجا فأوطأ منا رجل يقال له إربد ضبا ففزر ظهره فقدمنا على عمر فسأله إربد فقال له‏:‏ احكم فيه يا إربد قال‏:‏ أنت خير مني يا أمير المؤمنين وأعلم فقال عمر‏:‏ إنما أمرتك أن تحكم ولم آمرك أن تزكيني فقال إربد‏:‏ أرى فيه جديا قد جمع الماء والشجر فقال عمر‏:‏ فذلك فيه رواه سعيد بن منصور ولأنه واجب لحق الله فجاز أن يكون من وجب عليه أمينا فيه كالزكاة‏.‏

وفي كبير الصيد كبير مثله وفي الصغير صغير مثله وفي كل واحد من الصحيح والمعيب مثله وإن فدى الذكر بالأنثى جاز لأنها أفضل وإن فدى الأنثى بالذكر ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يجزئ لذلك‏.‏

والآخر‏:‏ يجزئ لأن لحمه أوفر وهو المقصود وإن فدى أعور من عين بأعور من أخرى جاز لأن المقصود منهما واحد وإن فدى معيبا بمعيب من جنس آخر لم يجز لأنهما مختلفان‏.‏

وإن أتلف صيدا ماخضا ففيه قيمة مثله ماخض قال القاضي لأن قيمته أكثر من مثله‏.‏

وقال أبو الخطاب‏:‏ فيه مثله ماخض للآية وإن جنى على ماخض فأتلف جنينها ففيه ما نقصها كما لو جرحها وإن جرح حيا ثم مات ضمنه بمثله‏.‏

فصل‏:‏ الضرب الثاني

ما لا مثل له‏:‏ وهو الطير وشبهه من صغار الصيد ففيه قيمته إلا الحمام فإن فيه شاة لأن عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس‏:‏ قضوا في حمام الحرم بشاة والحمام‏:‏ كل ما عب الماء وهدر كالحمام المعروف واليمام والجوازل والقماري والرقاطي والدباسي والقطا لأن هذا كله حمام وقال الكسائي‏:‏ كل مطوق حمام فعلى قوله يكون الحجل حماما وعلى الأول ليس بحمام وما كان أصغر من الحمام ففيه قيمته لأن لا مثل له وما كان أكبر منه ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ فيه قيمته لأن القياس يقتضيها في جميع الطير تركناه في الحمام لقضاء الصحابة ففيما عداه يبقى على القياس‏.‏

والثاني‏:‏ فيه شاة لأن إيجابها في الحمام تنبيه على إيجابها فيما هو أكبر منه وقد روي عن ابن عباس وجابر أنهما قالا‏:‏ في الحجلة والقطا والحبارى‏:‏ شاة شاة وإن نتف ريش طائر ففيه ما نقص فإن عاد فنبت ففي ضمانه وجهان كغصن الشجرة إذا نبت وفي بيض الصيد قيمته‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم من من وجب عليه جزاء صيد‏]‏

ومن وجب عليه جزاء صيد فهو مخير بين إخراج المثل أو يقوم المثل ويشتري بقيمته طعاما ويتصدق به أو يصوم عن كل مد يوما لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما‏}‏ و‏[‏أو‏]‏ للتخيير وعنه‏:‏ أنها على الترتيب فيجب المثل فإن لم يجد ‏[‏أطعم فإن لم يجد‏]‏ صام ككفارة القتل وعنه‏:‏ لا طعام في الجزاء وإنما ذكره ليعدل به الصيام والمذهب الأول لأنه ظاهر النص فلا تعويل على ما خالفه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن اشترك جماعة في قتل صيد‏]‏

وإن اشترك جماعة في قتل صيد فعليهم جزاء واحد‏.‏

وعنه‏:‏ على كل واحد جزاء لأنها كفارة قتل أشبهت كفارة قتل الآدمي‏.‏

وعنه‏:‏ إن كفروا بمال فجزاء واحد وإن كفروا بالصيام فكفارات والأولى أولى ‏[‏ن ذلك يروى عن عمر وابنه وابن عباس رضي الله عنهم ولأنه بدل متلف يتجزأ فيقسم بدله بين المشتركين كالديات وقيم المتلفات وإن اشترك حلال وحرام فلا شيء على الحلال وهل يكمل الجزاء على الحرام أو يكون حكمه حكم المشارك لحرام‏؟‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يضمنه بمثله لأن ما وجب ضمان جملته بمثله وجب في بعضه مثله كالمكيلات‏.‏

والآخر تجب قيمة قدره من مثله لأن الجزء يشق إخراجه فصرنا إلى قيمة‏.‏

وإن جرح صيد فأزال امتناعه فقتله حلال أو سبع فعلى المحرم جزاء جميعه لأنه سبب تلفه وإن قتل محرم آخر فعلى الأول ما نقصه والباقي على الثاني وإن برئ وزال نقصه فلا شيء فيه كالآدمي وإن نقص فعليه نقصه وإن برئ غير ممتنع فعليه جزاء جميعه لأنه عطله فصار كالتالف وإن غاب ولم يعلم خبره فعليه نقصه لأنه المتيقن‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم القارن والمفرد والمعتمر في جزاء الصيد‏]‏

والقارن والمفرد والمعتمر سواء في جزاء الصيد وسائر الكفارات لأنهم سواء في الإحرام فوجب استواؤهم في ذلك‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏صيد الحرم على الحلال والحرام‏]‏

وصيد الحرم على الحلال والحرام لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها ولا ينفر صيدها‏]‏ فقال العباس‏:‏ إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إلا الإذخر‏]‏ متفق عليه وحكمه في الجزاء حكم صيد الإحرام لأنه مثله في التحريم فكان مثله في الجزاء والسمك في التحريم كصيد البر لعموم قوله‏:‏ ‏[‏لا ينفر صيدها‏]‏ ولأن حرمته بمحله وهما في المحل سواء وعنه‏:‏ لا يحرم لأنه لا يحرمه الإحرام فلم يحرمه الحرام كالسباع وسائر الحيوانات حكمها في الحرم حكمها في الإحرام فما حرمه الإحرام من الصيد حرمه الحرم وما أبيح فيه من الأهلي وغير المأكول لم يحرمه الحرم ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم‏]‏ رواه مسلم إلا أن القمل لا يحرمه الحرم رواية واحدة ويجب الجزاء على كل قاتل في الحرام مسلما كان أو كافرا صغيرا أو كبيرا لأن حرمته لمحله وهو ثابت بالنسبة إلى كل قاتل ولو قتل محرم صيدا حرميا لزمه جزاء واحد لأن المقتول واحد فكان جزاؤه واحدا كما لو قتله حلال‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم من ملك صيدا في الحل فأدخله الحرم‏]‏

ومن ملك صيدا في الحل فأدخله الحرم لزمه رفع يده عنه وإرساله فإن تلف في يده أو أتلفه ضمنه وإن ذبحه صار ميتة لأن الحرم سبب التحريم الصيد فحرم استدامة إمساكه كالإحرام وإن أمسكه في الحرم فأخرجه إلى الحل لزمه إرساله كالمحرم إذا مسك الصيد حتى حل‏.‏

وإن رمى في الحرم صيدا في الحل أو أرسل كلبه عليه أو قتل صيدا على غصن في الحل أصله في الحرم فلا ضمان فيه لأنه صيد حل قاتله حلال فلم يضمن كما لو كان قاتله في الحل وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏لا ينفر صيدها‏]‏ يدل بمنطوقه على تحريمه في المسألة الأولى وبمفهومه على حله في الثانية وإن رمى من الحل صيدا في الحرم أو أرسل كلبه عليه فقتله أو قتل صيدا على غصن في الحرم أصله في الحل ضمنه لأنه صيد حرمي معصوم بمحله وعن أحمد فيهما جميعا روايتان‏.‏

فإن كانا جميعا في الحل فدخل السهم أو الكلب الحرم ثم خرج فقتل صيدا في الحل لم يضمن بحال لأن الصيد والصائد جميعا في الحل‏.‏

وإن رمى صيدا في الحل فدخل السهم الحرم فقتل فيه صيدا ضمنه لأن العمد والخطأ واحد في الضمان وإن أرسل كلبه على صيد في الحل فدخل فقتله في الحرم أو قتل غيره ففيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ لا يضمن لأن للكلب اختبارا وقد دخل باختياره فلم يضمن جنايته بخلاف السهم‏.‏

والثانية‏:‏ إن كان الصيد قريبا من الحرم ضمنه لتفريطه بتعرضه للاصطياد في الحرم وإن كان بعيدا لم يضمن لعدم تفريطه ولا يؤكل لأنه صيد حرمي‏.‏

وقال أبو بكر‏:‏ عليه الضمان بكل حال وإن جرحه في الحل فدخل الحرم فمات فيه لم يضمنه وحل أكله لأنه ذبحه في الحل وإن وقف صيد في الحرم والحل فقتله ضمنه تغليبا للتحريم‏.‏

وإن أمسك طائرا في الحل فهلك فراخه في الحرم ضمن الفراخ وحدها لأنه أتلفها في الحرم‏.‏

وإن أمسك الطائر في الحرم فهلك الفراخ في الحل ضمن الطائر وحكم الفراخ حكم ما لو رمى من الحرم صيدا في الحل لأن صيد الحل هلك بسبب كان منه في الحرم‏.‏

وإن نفر صيدا حرميا فهلك في نفوره بسبع أو غيره في حل أو حرم ضمنه لأنه هلك بتنفيره المنهي عنه وإن سكن من نفوره ثم أهلك لم يضمنه لأن هلاكه بغير سببه وقد روي عن عمر رضي الله عنه‏:‏ أنه دخل دار الندوة فعلق رداؤه فوقع عليه حمام فخاف أن يبول عليه فأطاره فانتهزته حية فقال أنا أطرت فسأل من معه فحكم عليه عثمان ونافع بن عبد الحارث بشاة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏قلع شجر الحرم وحشيشه‏]‏

ويحرم قلع شجر الحرم وحشيشه كله لحديث ابن عباس ‏[‏إلا الإذخر‏]‏ وما زرعه الإنسان لأنه كالحيوان الأهلي وإن غرس شجرة فقال أبو الخطاب‏:‏ له قلعها لأنه أنبتها الآدميون فأشبه الزرع وإن أخذه من الحرم فغرسه لم يبح قلعه لأنه حرمي ويحتمل كلام الخرقي تحريم قلع الشجر كله لقوله عليه السلام‏:‏ ‏[‏لا يعضد شجرها‏]‏ وذكر القاضي وأبو الخطاب‏:‏ أنه يباح قطع الشوك والعوسج لأنه بمنزلة السباع من الحيوان والحديث صريح في أنه لا يعضد شوكها واتباعه أولى‏.‏

ولا بأس بقطع ما يبس لأنه بمنزلة الميت وأخذ ما تناثر أو يبس من الورق أو تكسر من الشجر والعيدان بغير فعل الآدمي لذلك وما قطعه الآدمي لم يبح له ولا لغيره الانتفاع به لظاهر كلام أحمد لأنه قطع محرم لحرمة الحرم فأشبه ذبح الصيد ولا يجوز أخذ ورق الشجر الأخضر لأن في بعض الألفاظ‏:‏ ‏[‏ولا يخبط شجرها‏]‏ ولأنه يضر بالشجر أشبه نتف ريش الطير‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏جزاء قلع شجر الحرم وحشيشه‏]‏

ويجب الجزاء في ذلك فيجب في الشجرة الكبيرة بقرة وفي الصغيرة شاة لما روي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ في الدوحة بقرة وفي الجزلة شاة والدوحة‏:‏ الكبيرة والجزلة‏:‏ الصغيرة وإن قطع غصنا ضمنه بما نقص كأغصان الحيوان فإن خلف مكانه فهل يسقط الضمان‏؟‏ على وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يضمنه كشعر الآدمي وسنه‏.‏

والثاني‏:‏ يضمنه لأنه أتلفه‏.‏

وإن قلع شجرة لزمه ردها إلى موضعها كمن صاد صيدا لزمه إرساله فإن أعادها فيبست ضمنها لأنه أتلفها وإن نبتت كما كانت لم يضمنها كالصيد إذا أرسله وإن نقصت ضمن نقصها كالصيد سواء‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏قطع حشيش الحرم‏]‏

ويحرم قطع حشيش الحرم لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏لا يختلي خلاها‏]‏ ويضمنه بقيمته كما يضمن صغار الصيد بقيمته وإن استخلف فهل يسقط الضمان‏؟‏ على وجهين‏.‏

وفي إباحة رعيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يباح لأن الحاجة تدعو إليه فأشبه قطع الإذخر‏.‏

والثاني‏:‏ يحرم لأنه تسبب في إتلافه فهو كإرسال الكلب على الصيد وتباح الكمأة لأنه لا أصل لها فأشبهت الثمرة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏إخراج تراب الحرم وحصاه‏]‏

ويكره إخراج تراب الحرم وحصاه لما روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما كرهاه ولا يكره إخراج ماء زمزم لأنه يستخلف ويعد للإتلاف فأشبه الثمرة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم صيد المدينة‏]‏

ويحرم صيد مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وشجرها لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف على المدينة فقال‏:‏ ‏[‏اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم مكة‏]‏ وفي لفظ‏:‏ ‏[‏ولا يقطع شجرها‏]‏ متفق عليه‏.‏

ولا جزاء في صيدها وشجرها لأنه موضع يجوز دخوله بغير إحرام فأشبه صيد وجب ولأن الإيجاب من الشارع ولم يرد به وعنه‏:‏ فيه الجزاء وهو سلب القاتل لأخذه لما روي أن سعدا ركب إلى قصره بالعقيق فوجد عبدا يقطع شجرا أو يخبطه فسلبه فلما رجع سعد جاء أهل العبد فكلموه أن يرد عليهم فقال‏:‏ معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى أن يرد عليهم رواه مسلم وفي لفظ قال‏:‏ ‏[‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم هذا الحرم‏]‏ وقال‏:‏ ‏[‏من وجد أحدا يصيد منه فليسلبه‏]‏ رواه أبو داود‏.‏

وحد حرمها‏:‏ ما بين لابتيها بريد في بريد وقال أحمد‏:‏ كذا فسر أنس بن مالك وقد روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏ما بين لابتيها حرام‏]‏ متفق عليه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الفرق بين حرم مكة والمدينة‏]‏

ويفارق حرم مكة في أن من أدخل إليها صيدا من خارج فله إمساكه وذبحه لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول‏:‏ ‏[‏يا أبا عمير ما فعل النغير‏]‏ متفق عليه وهو طائر كان يلعب به فلم ينكر عليهم إمساكه‏.‏

ويجوز أن يأخذ من شجرها ما تدعو الحاجة إليه للمساند والوسائد والرحل ومن حشيشها ما تدعو الحاجة إليه للعلف لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حرم المدينة قالوا‏:‏ يا رسول الله إنا أصحاب عمل وأصحاب نضح وإنا لا نستطيع أرض غير أرضنا فرخص لنا فقال‏:‏ ‏[‏القائمتان والوسادة والعارضة والمسند فأما غير ذلك فلا يعضد ولا يخبط منها شيء‏]‏ رواه الإمام أحمد فأما صيد وج وشجره وهو واد من أودية الطائف فحلال لأن الأصل الحل وقد روي فيه حديث ضعفه أحمد وذكره الخلال في كتاب العلل‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم في ما وجب من الهدي والإطعام جزاء للصيد‏]‏

وما وجب من الهدي والإطعام جزاء للصيد لزمه إيصاله إلى مساكين الحرم لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏هديا بالغ الكعبة‏}‏ وكذلك دم التمتع والقران لأنه نسك فأشبه الهدي ودم فدية الأذى يختص بالمكان الذي وجب سببه فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كعب بن عجرة بالذبح والإطعام بالحديبية ولم يأمر بإيصاله إلى الحرم ونحر علي رضي الله عنه حين حلق رأس الحسين بالسقبا وفي معناه ما وجب بلبس أو طيب أو نحوه وقال القاضي‏:‏ ما وجب بفعل محظور فيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ محله حيث وجد سببه كفدية الأذى والإحصار‏.‏

والثانية‏:‏ محله الحرم لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم محلها إلى البيت العتيق‏}‏ وقال ابن عقيل‏:‏ إن فعل المحظور لعذر يبيحه فحمل هديه موضع فعله وإن فعل لغير عذر فمحله الحرم وأما هدي المحصر فمحل نحره محل حصره لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا فحالت كفار قريش بينه وبين البيت فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية روى البخاري نحوه وبين الحديبية والحرم ثلاثة أميال ولأنه جاز التحلل في غير موضعه للحصر فيجوز النحر في غير موضع النحر وعن أحمد‏:‏ لا يجوز نحره إلا في الحرم لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏هديا بالغ الكعبة‏}‏ فعلى هذا يبعثه إلى الحرم ويواطئ من يبعثه على اليوم الذي ينحره فيه فيحل حينئذ وأما الصيام كله فيجزئه بكل مكان لأنه لا نفع فيه لأهل المكان فلا يختص بالمكان كرمضان‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏ما وجب لمساكين الحرم‏]‏

وما وجب لمساكين الحرم لم يجز ذبحه إلا في الحرم وفي أي موضع منه ذبح جاز لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏كل منى منحر وكل فجاج مكة منحر وطريق‏]‏ رواه ابن ماجة مفهومه أنه لا يجوز النحر في غيره مما ليس في معناه إذا نحر ففرقه على المساكين فإن أطلقها لم يقتطعونها جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر بدنات خمسا ثم قال‏:‏ ‏[‏من شاء فليقتطع‏]‏ رواه أبو داود ومساكين الحرم من حله من أهله وغيرهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلقها لمن حضره‏.‏

باب‏:‏ دخول مكة وصفة العمرة

ويستحب لمن أراد دخول مكة أن يغتسل ويدخلها من أعلاها من ثنية كداء ويخرج من أسفلها لما روي عن ابن عمر أنه كان يغتسل ثم يدخل مكة ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله وقال‏:‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من ثنية العليا التي بالبطحاء وخرج من الثنية السفلى متفق عليهما ويستحب أن يدخل المسجد من باب بني شيبة لقول جابر‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة ارتفاع الضحى فأناخ راحلته عند باب بني شيبة ودخل المسجد رواه مسلم‏.‏

ويستحب أن يدعو عند رؤيته البيت ويرفع يديه لما روى ابن جريح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال‏:‏ ‏[‏اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة وبرا وزد من شرفه وكرمه ممن حجه واعتمر تشريفا وتعظيما وبرا‏]‏ رواه الشافعي في مسنده وعن سعيد بن المسيب‏:‏ أنه كان حين ينظر إلى البيت يقول‏:‏ ‏(‏اللهم أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا بالسلام‏)‏ ذكر الأثرم هذا الدعاء وزاد‏:‏ الحمد لله رب العالمين كثيرا كما هو أهله وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله الحمد لله الذي بلغني بيته ورآني لذلك أهلا الحمد لله على كل حال اللهم إنك دعوت إلى حج بيتك الحرام وقد جئتك لذلك اللهم تقبل مني واعف عني وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت وما زار من الدعاء فحسن‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏البدأ بالطواف‏]‏

ويبدأ بالطواف لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة توضأ ثم طاف بالبيت متفق عليه ولأن الطواف تحية المسجد فاستحبت البداءة به كالركعتين في غيره من المساجد وينوي المتمتع به طواف العمرة وينوي المفرد والقارن الطواف للقدوم‏.‏

ويسن الاضطباع فيه وهو أن يجعل وسط الرداء تحت منكبه الأيمن ويتركه مكشوفا ويرد طرفيه على منكبه الأيسر لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى رواه أبو داود‏.‏

ويطوف سبعا يبتدئ بالحجر الأسود فيستلمه لقول جابر‏:‏ حتى أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ومعنى استلامه‏:‏ مسحه بيده ويستحب تقبيله لما روى أسلم قال‏:‏ رأيت عمر بن الخطاب قبل الحجر وقال‏:‏ إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك متفق عليه فإن لم يمكنه تقبيله استلمه وقبل يده لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم استلمه وقبل يده رواه مسلم فإن استلمه بشيء في يده قبله لما روى ابن عباس قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف في البيت ويستلم الركن بمحجن عنه ويقبل المحجن رواه مسلم وإن لم يمكنه أشار بيده إليه لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعير كلما أتى الركن أشار إليه وكبر‏.‏

ويستحب أن يقول عنده ما روى عبد الله بن السائب‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند استلامه‏:‏ ‏[‏بسم الله والله أكبر إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم‏]‏ ويحاذي الحجر بجميع بدنه ليستوعب جميع البيت والطواف ثم يأخذ في الطواف على يمين نفسه ويجعل البيت على يساره ويطوف سبعا يرمل في الثلاث الأول منها وهو إسراع المشي مع مقاربة الخطى ولا يثبت وثبا ويمشي أربعا لحديث جابر وروى ابن عمر قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا ومشى أربعا متفق عليه ولا يرمل في غير هذا الطواف لذلك فإن ترك الرمل في الثلاث لم يقضه في الأربع لأنه سنة فات محلها فلم يقضه في غيره كالجهر في الأوليين ولا يقضى في الأخريين‏.‏

ولو فاته الرمل والاضطباع في هذا الطواف لم يقضه فيما بعده كمن فاته الجهر في الصبح لم يقضه في الظهر ويكون الحجر داخلا في طوافه لأن الحجر في البيت ولا يطوف على جدار الحجر ولا شاذروان الكعبة لأنه من البيت فيجب أن يطوف به‏.‏

ولا يستلم الركن العراقي ولا الشامي لما روى ابن عمر‏:‏ ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني وما تركت استلامهما منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما في شدة ولا رخاء‏)‏ رواه مسلم وقال‏:‏ ما أرى النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركنين اللذين يليان الحجر إلا لأن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم عليه السلام متفق عليه ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك كلما حاذى الحجر كبر ويقول بين الركنين‏:‏ ‏{‏ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار‏}‏ لما روى عبد الله بن السائب‏:‏ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك ما بين ركن بني جمح والركن الأسود رواه أبو داود ويقول في بقية الطواف‏:‏ اللهم اجعله حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا رب اغفر وارحم واعف عما تعلم وأنت الأعز الأكرم ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو بما أحب ويستحب أن يدنو من البيت لأنه المقصود‏.‏

فإن كان يمكنه الرمل بعيدا ولا يمكنه قريبا فالبعيد أولى لأنه يأتي بالسنة المهمة‏.‏

ولا بأس بقراءة القرآن في الطواف لأنه صلاة والصلاة محل القرآن‏.‏

ويجوز الشرب في الطواف لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب في الطواف رواه ابن المنذر‏.‏

ويستحب أن يدع الحديث كله إلا ذكر الله أو قراءة القرآن أو دعاء أو أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏الطواف في البيت صلاة إلا أن الله أباحكم فيه الكلام فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير‏]‏ رواه الترمذي‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏صلاة ركعتين خلف مقام إبراهيم‏]‏

فإذا فرغ من الطواف صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم يقرأ فيهما ب ‏{‏قل يا أيها الكافرون‏}‏ وسورة الإخلاص لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في البيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين قرأ فيهما‏:‏ ‏{‏قل يا أيها الكافرون‏}‏ و‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ رواه مسلم وإن صلاهما في غير هذا الموضع أو قرأ غير ذلك أجزأه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏شروط صحة الطواف‏]‏

ويشترط لصحة الطواف تسعة أشياء‏:‏

الطهارة من الحدث والنجس وسترة العورة لحديث ابن عباس وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏لا يطوف في البيت عريان‏]‏ متفق عليه ولأنها عبادة تتعلق بالبدن فاشترط فيها ذلك كالصلاة‏.‏

وعنه‏:‏ فيمن طاف للزيارة ناسيا لطهارته حتى رجع فحجه ماض ولا شيء عليه وهذا يدل على أنها تسقط بالنسيان وعنه‏:‏ فيمن طاف للزيادة غير متطهر‏:‏ أعاد ما كان بمكة فإن رجع جبره بدم وهذا يدل على أن الطهارة ليست شرطا إنما هي واجب يجبره الدم فكذلك يخرج من طهارة النجس والستارة لأنها عبادة لا يشترط فيها الاستقبال فلم يشترط فيها ذلك كالسعي والوقوف‏.‏

الرابع‏:‏ النية لأنها عبادة محضة فأشبهت الصلاة‏.‏

الخامس‏:‏ الطواف لجميع البيت فإن سلك الحجر أو طاف على جدار الحجر أو على شاذروان الكعبة لم يجزئه لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏وليطوفوا بالبيت العتيق‏}‏ وهذا يقضي الطواف لجميعه والحجر منه لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏الحجر في البيت‏]‏ متفق عليه‏.‏

السادس‏:‏ الطواف سبعا فإن ترك منها شيئا وإن قل لم يجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف سبعا فيكون تفسيرا لمجمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليطوفوا بالبيت العتيق‏}‏ فيكون ذلك هو الطواف المأمور به وقد قال عليه السلام‏:‏ ‏[‏خذوا عني مناسككم‏]‏‏.‏

السابع‏:‏ أن يحاذي الحجر في ابتداء طوافه بجميع بدنه فإن لم يفعل لم يعتد بذلك الشوط واعتد له بما بعده‏.‏

ويأتي بشوط مكانه ويحتمل أن لا يجب هذا لأنه لما لم يجب محاذاة جميع الجحر لم تجب المحاذاة بجميع البدن‏.‏

الثامن‏:‏ الترتيب وهو أن يطوف على يمينه فإن نسكه لم يجزئه لما ذكرنا في السادس ولأنها عبادة تتعلق بالبدن فكان الترتيب فيها شرطا كالصلاة‏.‏

التاسع‏:‏ الموالاة شرط لذلك إلا أنه إذا أقيمت الصلاة أو حضرت جنازة فإنه يصلي ثم يبني لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة‏]‏ رواه مسلم‏.‏

وعنه‏:‏ إذا أعيا في الطواف فلا بأس أن يستريح وقال‏:‏ إذا كان له عذر بنى وإن قطعه من غير عذر أو لحاجة استقبل الطواف‏.‏

وعنه‏:‏ فيمن سبقه الحدث روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ يستأنف قياسا على الصلاة‏.‏

والثانية‏:‏ يتوضأ ويبني إذا لم يطل الفصل فيخرج في الموالاة روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ هي شرط كالترتيب‏.‏

والثانية‏:‏ ليست شرطا حال العذر لأن الحسن غشي عليه فحمل فلما أفاق أتمه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏سنن الطواف‏]‏

وسننه‏:‏ استلام الركن وتقبيله أو ما قام مقامه من الإشارة والدعاء والذكر في مواضعه والاضطباع والرمل والمشي في مواضعه لأن ذلك هيئة في الطواف فلم تجب كالجهر والإخفات في الصلاة وركعتا الطواف ليست واجبة لأن الأعرابي لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الفرائض ذكر الصلوات الخمس قال‏:‏ فهل علي غيرها‏؟‏ قال‏:‏ ‏[‏لا إلا أن تطوع‏]‏ متفق عليه‏.‏

ولأنها صلاة لم يشرع لها جماعة فلم تجب كسائر النوافل ولكنه سنة مؤكدة وإن صلى المكتوبة بعد طوافه أجزأته عنهما فإن جمع بين الأسابيع وصلى لكل أسبوع ركعتين جاز لأن عائشة والمسور بن مخرمة فعلا ذلك ولا تجب الموالاة بينهما لما ذكرنا وأن يطوف ماشيا وإن طاف راكبا أجزأه لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعيره وأمر أم سلمة فطافت راكبة من وراء الناس حديث أم سلمة متفق عليه ويجوز أن يحمله إنسان فيطوف به لأنه في معنى الراكب وإن طاف راكبا أو محمولا لغير عذر ففيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ يجزئه لأن الله تعالى أمر بالطواف مطلقا وهذا قد طاف ولأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا وهو صحيح‏.‏

والثانية‏:‏ لا يجزئه لأنها عبادة تتعلق بالبدن فلم يجز فعلها راكبا لغير عذر كالصلاة فأما النبي صلى الله عليه وسلم فإن ابن عباس قال‏:‏ إن الناس كثروا عليه يقولون‏:‏ هذا محمد هذا محمد حتى خرج العواتق من البيوت وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه فلما كثروا عليه ركب رواه مسلم‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الفرق بين الرجل والمرأة في الإحرام‏]‏

والمرأة كالرجل إلا أنها إذا قدمت مكة نهارا استحب لها تأخير الطواف إلى الليل لأنه أستر لها إلا أن تخاف الحيض فتبادر الطواف لئلا يفوتها التمتع ولا يستحب لها مزاحمة الرجال لاستلام الحجر بل تشير بيدها إليه قال عطاء‏:‏ كانت عائشة تطوف حجزة من الرجال لا تخالطهم فقالت امرأة‏:‏ انطلقي نستلم يا أم المؤمنين قالت‏:‏ انطلقي عنك وأبت وليس في حقها رمل ولا اضطباع لأنه يستحب لها التستر ولأن الرمل شرع في الأصل لإظهار الجلد والقوة ولا يقصد ذلك في المرأة ولذلك لا يسن الرمل في حق المكي ومن جرى مجراهم وقال ابن عباس وابن عمر‏:‏ ليس على أهل مكة رمل وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا أحرم في مكة لم يرمل‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏السعي بين الصفا والمروة‏]‏

إذا فرغ من الركعتين سعى بين الصفا والمروة ويستحب أن يستلم الحجر ثم يخرج إلى الصفا من بابه فيرقى عليه حتى يرى البيت فيستقبله ويدعوه لأن جابرا قال في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ ‏{‏إن الصفا والمروة من شعائر الله‏}‏ نبدأ بما بدأ الله تعالى به فبدأ في الصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبله فوحد الله وكبره وقال‏:‏ ‏[‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده‏]‏ ثم دعا بين ذلك وقال مثل هذا ثلاث مرات‏)‏‏.‏

قال أحمد‏:‏ ويدعو بدعاء ابن عمر ذكر نحوا من هذا وزاد‏:‏ لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون اللهم اعصمني بدينك وطواعيتك وطواعية رسولك اللهم جنبني حدودك اللهم اجعلني ممن يحبك ويحب ملائكتك وأنبياءك ورسلك وعبادك الصالحين اللهم حببني إليك وإلى ملائكتك وإلى رسلك وإلى عبادك الصالحين اللهم يسرني لليسرى وجنبني العسرى واغفر لي في الآخرة والأولى واجعلني من أئمة المتقين واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لي خطيئتي يوم الدين اللهم إنك قلت ‏{‏ادعوني أستجب لكم‏}‏ وإنك لا تخلف الميعاد اللهم إذ هديتني للإسلام فل تنزعني منه ولا تنزعه مني حتى تتوفاني وأنا على الإسلام اللهم لا تقدمني لعذاب ولا تؤخرني لسوء الفتن رواه سعيد بن منصور وما دعا فحسن ثم ينزل ويمشي حتى يكون بينه وبين الميل الأخضر المعلق بفناء المسجد نحوا من ستة أذرع فيسعى سعيا شديدا حتى يحاذي الميلين الأخضرين اللذين بفناء المسجد وحذاء دار العباس ثم يمشي حتى يصعد المروى فيرقى عليها ويقول كما قال على الصفا ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه حتى يكمل ذلك سبعا يحتسب بالذهاب سعية وبالرجوع أخرى يفتتح بالصفا ويختم بالمروة لأن جابرا قال‏:‏ ‏[‏ثم نزل يعني النبي صلى الله عليه وسلم إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروى ففعل على المروة كما فعل على الصفا فلما كان آخر طوافه على المروة‏]‏ وذكر الحديث رواه مسلم ويدعو فيما بينهما ويذكر الله تعالى‏.‏

قال أبو عبد الله‏:‏ كان ابن مسعود إذا سعى بين الصفا والمروة قال‏:‏ رب اغفر وارحم واعف عما تعلم وأنت الأعز الأكرم قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله‏]‏ وهو حديث حسن صحيح‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الواجب من السعي بين الصفا والمروة‏]‏

والواجب من هذا ثلاثة أشياء استيفاء السبع فإن ترك منها شيئا وإن قل لم يجزئه وإن لم يرق على الصفا والمروة وجب استيعاب ما بينهما بأن يلصق عقبيه بأسفل الصفا ثم يلصق أصابع رجليه بالمروة ليأتي بالواجب كله والبداءة بالصفا لخبر جابر فإن بدأ بالمروة لم يعتد له بذلك الشوط واعتد له بما بعده وترتيب السعي على الطواف فلو سعى قبله لم يجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سعى بعد طوافه وقال‏:‏ ‏[‏خذوا عني مناسككم‏]‏ ولو طاف وسعى ثم علم أن طوافه غير صحيح لعدم الطهارة أو غيرها‏:‏ لم يعتد له بسعيه لفوات الترتيب‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏سنن السعي بين الصفا والمروة‏]‏

ويسن الطهارة والستارة‏.‏

وعنه‏:‏ أنهما واجبتان لأنه أحد الطوافين أشبه الطواف في البيت والأول المذهب لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة حين حاضت‏:‏ ‏[‏اقضي ما يقضي الحاج غير أن تطوفي بالبيت‏]‏ أخرجه المسلم والبخاري ونحوه قالت عائشة‏:‏ إذا طافت المرأة في البيت فصلت ركعتين ثم حاضت فلتطف بالصفا والمروة ولأنها عبادة لا تتعلق بالبيت فلم يشترط لها ذلك كالوقوف ويسن أن يرقى على الصفا والمروة ويرمل بين العلمين ويمشي ما سوى ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ولا يجب لما روي عن ابن عمر أنه قال‏:‏ أنا أمشي فقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمشي وأنا شيخ كبير رواه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح ويسن الموالاة بينه لأن النبي صلى الله عليه وسلم والى بينه ولا يجب لأنه نسك لا يتعلق بالبيت فلم يشترط له الموالاة كالرمي وقد روي أن سودة بنت عبد الله بن عمر سعت فقضت طوافها في ثلاثة أيام ويسن أن يمشي فإن ركب جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم سعى راكبا ولما ذكرنا في الموالاة والمرأة كالرجل إلا أنها لا ترقى على الصفا والمروة ولا ترمل في طواف ولا سعي لما ذكرنا في الرمل في الطواف وليس على أهل مكة رمل لذلك نص عليه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏ماذا يفعل بعد الفراغ من السعي‏]‏

فإذا فرغ من السعي فإن كان متمتعا لا هدي معه قصر من شعره وحل من عمرته فما روى ابن عمر قال‏:‏ تمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فلما فلم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس‏:‏ ‏[‏من كان معه هدي فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجته ومن لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة وليقصر وليحلل‏]‏ متفق عليه وإنما جعل التقصير هاهنا ليكون الحلق للحج فأما من ساق الهدي فليس له التحلل للحديثين وعنه‏:‏ أنه يقصر من شعره خاصة ولا يلمس شاربه ولا أظفاره لما روى معاوية قال‏:‏ قصرت من رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص عند المروة حديث صحيح رواه مسلم‏.‏

وعنه‏:‏ إن قدم في العشر لم يحل لذلك وإن قدم قبل العشر نحر وتحلل كالمعتمر غير المتمتع ومن لبد فهو كمن أهدى لما روت حفصة أنها قالت‏:‏ يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحلل أنت من عمرتك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏[‏إني لبدت رأسي وقلدت هديا فلا أحل حتى أنحر‏]‏ متفق عليه فأما المعتمر الذي لا يريد التمتع فإنه يحل وإن كان في أشهر الحج لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر من ذي القعدة فحل ونحر هديه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏فضل السعي‏]‏

والسعي ركن لا يتم الحج إلا به لقول عائشة رضي الله عنها‏:‏ طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة فطاف المسلمون فكانت سنة ولعمري ما أتم الله حج من لم يطف بينهما رواه مسلم وعن حبيبة بنت أبي تجراة قالت‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏[‏اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي‏]‏ رواه أبو داود‏.‏

وعنه‏:‏ أنه سنة لا شيء على تاركه لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا جناح عليه أن يطوف بهما‏}‏ مفهومه أنه مباح وفي مصحف أبي وابن مسعود ‏(‏فلا جناح عليه إلا أن يطوف بهما‏)‏ وهذا لا ينحط على رتبة الخبر قال القاضي‏:‏ الصحيح أنه واجب يجبره الدم وليس بركن جميعا بين الدليلين وتوسطا بين الأمرين‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏عدد مرات السعي‏]‏

ولا يسن السعي بين الصفا والمروة إلا مرة في الحج ومرة في العمرة فمن سعى مع طواف القدوم لم يعده مع طواف الزيارة ومن لم يسع مع طواف القدوم أتى به بعد طواف الزيارة فأما الطواف بالبيت فيستحب الإكثار منه والتطوع به لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏[‏من طاف بالبيت وصلى ركعتين فهو كعتق رقبة‏]‏ رواه ابن ماجه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الشرب من ماء زمزم‏]‏

ويستحب أن يشرب من ماء زمزم لما أحب ويتضلع منه لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏[‏ماء زمزم لما شرب له‏]‏ رواه الدارقطني ويقول عند الشرب‏:‏ بسم الله اللهم اجعله لنا علما نافعا ورزقا واسعا وريا وشبعا وشفاء من كل داء واغسل به قلبي واملأه من خشيتك‏.‏

باب‏:‏ صفة الحج

يستحب لمن بمكة الخروج يوم التروية- وهو الثامن من ذي الحجة- قبل صلاة الظهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يومئذ فصلى الظهر بمنى فمن كان حراما خرج على حاله ومن كان حلالا من المتمتعين والمكيين أحرم بالحج وفعل فعله عند الإحرام من الميقات ومن أحرم من الحرم جاز لأن جابرا قال‏:‏ أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم لما حللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى فأهللنا من الأبطح‏.‏

والمستحب أن يطوف بالبيت سبعا ويصلي ركعتين ثم يستلم الركن وينطلق منه مهلا بالحج لأن عطاء كان يفعل ذلك ويفعل في إقامته بمنى ورواحه منها ووقوفه مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جابر‏:‏ ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة فسار حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ثم لم يصل بينهما شيئا ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه فاستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا أولى ما فعل اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ويستحب أن يخطب الإمام خطبة يعلم الناس مناسكهم وفعلهم في وقوفهم ودفعهم في أول ما تزول الشمس ويقصر الخطبة لأن سالم بن عبد الله قال للحجاج يوم عرفة‏:‏ إن كنت تريد أن تصيب السنة فقصر الخطبة وعجل الصلاة قال ابن عمر‏:‏ صدق رواه البخاري ويأمر بالأذان فينزل فيصلي بهم الظهر والعصر يجمع بينهما بأذان وإقامتين للخبر ومن لم يصل مع الإمام جمع في رحله لأنهما صلاتا جمع فشرع جمعهما في حق المنفرد كصلاتي المزدلفة ثم يصير إلى موقف عرفة وأين وقف منها جاز لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏عرفة كلها موقف‏]‏ رواه أبو داود وهي من الجبل المشرف على عرفة إلى الجبال المقابلة له إلى ما يلي حوائط بني عامر إلى بطن عرنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏كل عرفة موقف وارفعوا عن بطن عرنة‏]‏ رواه ابن ماجه‏.‏

والأفضل الوقوف في موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يقف راكبا لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف راكبا ولأنه أمكن له من الدعاء وقيل‏:‏ الراجل أفضل لأنه أروح لراحلته ويحتمل أن يكونا سواء‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الاجتهاد في الذكر والدعاء‏]‏

ويجتهد في الذكر والدعاء لأنه يوم رغبة ترجى فيه الإجابة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏ما من يوم أكثر من يعتق الله فيه عبيدا من النار من يوم عرفة فإنه ليدنو عز وجل فيباهي بهم الملائكة فيقول‏:‏ ما أراد هؤلاء‏]‏ رواه مسلم والنسائي وابن ماجه ويدعو بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏[‏أكثر دعاء الأنبياء قبلي ودعائي عشية عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير اللهم اجعل لي في قلبي نورا وفي سمعي نورا ويسر لي أمري‏]‏ ويدعو بدعاء ابن عمر رضي الله عنهما الذي ذكرناه ويختار من الدعاء ما أمكنه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏وقت الوقوف بعرفة‏]‏

ووقت الوقوف من طلوع فجر يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر لما روى عروة بن مضرس بن أوس بن لام قال‏:‏ أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت‏:‏ يا رسول اله إني جئت من جبلي طيىء أكللت راحلتي وأتعبت نفسي والله ما تركت من جبل إلا ووقفت عليه فهل لي من حج‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجته وقضى تفثه‏]‏ ‏{‏هذا حديث صحيح‏.‏

وقال أبو حفص العكبري‏:‏ أول وقته زوال الشمس لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعده والأول أولى للخبر ولأن ما قبل الزوال من يوم عرفة فكان وقتا للوقوف بها كالذي بعده ووقوف النبي صلى الله عليه وسلم لم يستوعب الوقت بدليل ما بعد الغروب ومن حصل بعرفة في وقت الوقوف قائما أو قاعدا أو مجتازا أو نائما أو غير عالم أنه بعرفة فقد أدرك الحج للخبر ومن كان مغمى عليه أو مجنون لم يحتسب له به لأنه ليس من أهل العبادات بخلاف النائم لما ذكرنا في الصيام ومن فاته ذلك فقد فاته الحج‏.‏

قال ابن عقيل‏:‏ والسكران كالمغمى عليه لأنه ليس من أهل العبادات‏.‏

ولا يشترط للوقوف طهارة ولا سترة ولا استقبال لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة إذ حاضت‏:‏ ‏[‏افعلي ما يفعل الحجاج غير أن لا تطوفي بالبيت‏]‏ وأمرها فوقفت قال أحمد رضي الله عنه‏:‏ يستحب أن يشهد المناسك كلها على وضوء لأنه أكمل وأفضل ويجب أن يقف حتى تغرب الشمس لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف كذلك فإن دفع قبل الغروب ثم عاد فلا دم عليه لأنه جمع بين الليل والنهار فإن لم يعد فعليه دم لأنه ترك نسكا واجبا ولا يبطل حجه لحديث عروة بن مضرس ومن وافى عرفة ليلا أجزأه ذلك ولا دم عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه‏]‏ رواه أبو داود ويستحب أن لا يدفع قبل الإمام قال أحمد‏:‏ وما يعجبني أن يدفع إلا مع الإمام لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفعوا قبله‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الدفع بعد الغروب إلى مزدلفة‏]‏

ثم يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة ويسير وعليه السكينة وإذا وجد فرجة أسرع لقول جابر‏:‏ وأردف رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة وسار وهو يقول‏:‏ ‏[‏أيها الناس السكينة السكينة‏]‏ حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما وقال أسامة‏:‏ ‏(‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير العنق فإذا وجد فرجة نص‏)‏ يعني‏:‏ أسرع متفق عليه ويكون في الطريق يبلي ويذكر الله تعالى لما روى الفضل‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة متفق عليه فإن وصل مزدلفة أناخ راحلته ثم صلى المغرب والعشاء قبل حط الرحال يجمع بينهما لخبر جابر وروى أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام فصلى المغرب ثم أناخ الناس في منازلهم ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة فصلوا ثم حلوا رواه مسلم وإن صلى المغرب في طريق مزدلفة ترك السنة وأجزأه لأن الجمع رخصة فجاز تركها كسائر الرخص ثم يبيت لمزدلفة حتى يطلع الفجر ثم يصلي الفجر في أول وقتها ثم يأتي المعشر الحرام فيقف عليه ويستقبل القبلة ويدعو ويكون من دعائه‏:‏ اللهم كما وقفتنا فيه وأريتنا إياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق ‏{‏فإذا أفضتم من عرفات‏}‏ ثم يقف حتى يسفر جدا ثم يدفع قبل طلوع الشمس إلى منى فإذا أتى بطن محسر أسرع حتى يجاوزه ثم يسير حتى يأتي جمرة العقبة فيرميها لقول جابر في حديثه‏:‏ ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر فصلى الصبح حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المعشر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده ولم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل طلوع الشمس حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى حتى أتى الجمرة يعني جمرة العقبة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف وأين وقف من مزدلفة جاز لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏مزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر وحدها ما بين مأزمي وعرفة وقرن محسر‏]‏ ويستحب أخذ حصى الجمار منها ليكون مستعدا بالحصى لا يشتغل بجمعه في منى عن تعجيل الرمي ومن حيث أخذه جاز وعدده سبعون حصاة ويستحب أن يكون مثل حصى الخذف ويلقطهن لقطا لما روى ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة ‏[‏القط لي حصا‏]‏ فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف فجعل ينفضهن في كفيه ويقول‏:‏ ‏[‏أمثال هؤلاء فارموا‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏[‏أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين‏]‏ رواه ابن ماجه‏.‏

والمبيت بمزدلفة واجب يجب بتركه دم لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف به وسماه موقفا وليس بركن لقوله عليه السلام‏:‏ ‏[‏الحج عرفة‏]‏‏.‏

ويجوز الدفع بعد نصف الليل لما روت عائشة قالت‏:‏ أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم أفاضت رواه أبو داود ولا بأس بتقديم الضعفة ليلا لهذا الحديث ولما روى ابن عباس قال‏:‏ كنت فيمن قدم النبي صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله من مزدلفة إلى منى متفق عليه ولا يجوز الدفع قبل منتصف الليل فمن خرج قبل ذلك ثم عاد إليها في ليله فلا دم عليه ومن لم يعد فعليه دم فإن وافاها بعد نصف الليل فلا دم عليه كما قلنا في عرفة سواء‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏رمي جمرة العقبة‏]‏

فإذا وصل منى بدأ برمي جمرة العقبة لأنه صلى الله عليه وسلم بدأ بها ولأنها تحية منى فلم يقدم عليها شيء كالطواف في المسجد والمستحب رميها بعد طلوع الشمس لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏‏:‏ ‏[‏لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس‏]‏ من المسند‏.‏

وأول وقته بعد نصف الليل لحديث عائشة ويستحب لمن كان راكبا أن يأتيها راكبا لما روى جابر قال‏:‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول‏:‏ ‏[‏لتأخذوا عني مناسككم‏]‏ رواه مسلم ويستحب أن يستبطن الوادي ويستقبل القبلة ويرمي على حاجبه الأيمن لما روى عبد الرحمن بن يزيد قال‏:‏ لما أتى عبد الله جمرة العقبة استبطن الوادي واستقبل القبلة وجعل يرمي الجمرة على حاجبه الأيمن ثم رمى بسبع حصيات ثم قال‏:‏ والله الذي لا إله إلا غيره من هاهنا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة متفق عليه وإن رماها من فوقها جاز لما روي عن عمر أنه جاء والزحام عند الجمرة فصعد فرماها من فوقها ويقطع التلبية عند البداءة بالرمي لقول الفضل‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة ولأن التلبية للإحرام وبالرمي يشرع في التحلل منه فلا يبقى للتلبية معنى ويكبر مع كل حصاة لحديث جابر وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم استبطن الوادي ورمى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة‏:‏ الله أكبر الله أكبر اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا وسعيا مشكورا رواه حنبل في مناسكه ويرفع يده في الرمي حتى يرى بياض إبطيه ولا يجزئه غير الحجر في الرمي من المدر والخذف ولا بحجر قد رمي به لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بالحصى وأمر بلقطه من غير المرمي ولأن ما تقبل من الحصى رفع والباقي مردود فلا يرمى به وإن رمى بحجر كبير أجزأه لأنه حجر وعنه‏:‏ لا يجزئه لأنه منهي عنه‏.‏

ولا يجزئه وضع الحصى في المرمى بغير رمي لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى‏.‏

فإن رمى السبع دفعة واحدة لم يجزئه إلا عن واحدة لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى سبع رميات‏.‏

ولو رمى فوقعت الحصاة في غير المرمى واستقرت لم يجزئه وإن طارت فوقعت في المرمى أجزأته لأنا حصلت فيه برميه وإن وقعت على ثوب إنسان أو محمله ثم طارت إلى المرمى أجزأته وإن رماها الإنسان عن ثوبه أو وقعت بحركة المحمل لم تجزئه لأنها لم تصل برميه وإن رماها من مكان عال فتدحرجت إلى المرمى أجزأته لأنها حصلت فيه بفعله وإن وقعت في غير المرمى فأطارت أخرى إلى المرمى لم تجزئه لأن التي رماها لم تصل‏.‏

وإذا فرغ من الرمي انصرف ولم يقف لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقف عندها فإن أخر الرمي إلى المساء رمى ولا شيء عليه لما روى ابن عباس قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل بمنى قال رجل‏:‏ رميت بعدما أمسيت فقال‏:‏ ‏[‏لا حرج‏]‏ رواه البخاري فإن لم يرم حتى جاء الليل لم يرم وأخره إلى غد بعد الزوال لأن ابن عمر قال ذلك‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏ذبح الهدي‏]‏

ثم ينصرف فيذبح هديا إن كان معه وإن كان عليه واجبا عليه ولا هدي معه اشتراه فذبحه لقول جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده ويسن أن ينحر بيده لهذا الحديث ويجوز أن يستنيب فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عليا فنحر ما غبر وحد منى ما بين العقبة وبطن محسر فحيث نحر منها أو من الحرم أجزأه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏كل منى منحر وكل فجاج مكة منحر وطريق‏]‏‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحَلق‏]‏

ثم يحلق رأسه ويستحب أن يحلق عند حلقه لأنه نسك ويستقبل القبلة ويبدأ بشقه الأيمن لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بالحلاق فأخذ بشق رأسه الأيمن فحلقه ثم الأيسر رواه أبو داود ويجوز أن يقصر من شعره إلا أن أحمد قال‏:‏ من لبد رأسه أو عقص أو ظفر فليحلق لأن عمر وابنه أمرا من لبد رأسه أن يحلق ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏من لبد فليحلق‏]‏ فأما غير هؤلاء فيجزئهم التقصير بالإجماع والحلق أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق وقال‏:‏ ‏[‏اللهم اغفر للمحلقين قالوا‏:‏ يا رسول الله والمقصرين‏؟‏ قال‏:‏ اللهم اغفر للمحلقين قالوا‏:‏ يا رسول الله والمقصرين‏؟‏ قال في الرابعة‏:‏ والمقصرين‏]‏‏.‏

والمرأة تقصر ولا تحلق لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏ليس على النساء حلق إنما على النساء تقصير‏]‏ رواه أبو داود ولأن الحلق في حقا مثله فلم يكن مشروعا‏.‏

ومن لا شعر له فلا شيء عليه لأنها عبادة تتعلق بمحل فسقطت بذهابه كغسل اليد في الوضوء ويستحب أن يمر الموسى على رأسه لأن ابن عمر قال ذلك‏.‏

فصل‏:‏ وفي الحلق والتقصير روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ ليس بنسك إنما هو استباحة محظور لأنه محرم فلم يكن نسكا كالطيب ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا موسى أن يتحلل بطواف وسعي ولم يذكر تقصيرا‏.‏

والثانية‏:‏ هو نسك وهو أصح قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين‏}‏ ولأن النبي عليه السلام أمر به بقوله‏:‏ ‏[‏فليقصر وليحلل‏]‏ ودعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة والتفاضل إنما هو في النسك وقال عليه السلام ‏[‏إنما على النساء التقصير‏]‏ فإن قلنا‏:‏ هو استباحة محظور فله الخير بين فعله وتركه والأخذ من بعضه دون بعض ويحصل التحلل الأول برمي الجمرة قبله فيحل له كل محرم بالإحرام إلا النساء وما يتعلق بهن من الوطء والعقد والمباشرة لما روت أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم النحر‏:‏ ‏[‏إن هذا يوم رخص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلوا- يعني من كل شيء- إلا النساء‏]‏ رواه أبو داود‏.‏

وعنه‏:‏ يحل له كل شيء إلا الوطء في الفرج وإن قلنا هو نسك فعليه الحلق أو التقصير من جميع رأسه لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏محلقين رءوسكم ومقصرين‏}‏‏.‏

وحلق النبي صلى الله عليه وسلم جميع رأسه‏.‏

وعنه‏:‏ يجزئه بعضه كالمسح ويقصر قدر الأنملة لأن ابن عمر قال ذلك وإن أخذ أقل من ذلك جاز لأن الأمر به مطلق ولا يحصل التحلل الأول إلا به مع الرمي لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏وليقصر وليحلل‏]‏‏.‏

والأولى حصول التحلل بالرمي وحده لحديث أم سلمة عن ابن عباس مثله وإن أخر الحلاق إلى آخر أيام النحر جاز لأن تأخير النحر جائز وهو مقدم على الحلق فالحلق أولى وإن أخره عن ذلك ففيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ عليه دم لأنه ترك النسك في وقته فأشبه تأخير الرمي‏.‏

والثانية‏:‏ لا شيء عليه سوى فعله لأن الله تعالى بين أول وقته بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله‏}‏ ولم يبين آخره لأنه لو أخر الطواف لم يلزمه إلا فعله فالحلق أولى ويستحب لمن حلق أن يأخذ من شاربه وأظفاره لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حلق رأسه قلم أظفاره ولا بأس أن يتطيب لقول عائشة‏:‏ طيبت رسول الله لحرمه حين أحرم ولحله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت متفق عليه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏خطبة الإمام يوم النحر بمنى‏]‏

ويسن أن يخطب الإمام يوم النحر بمنى خطبة يعلمهم فيها الإفاضة والرمي والمبيت بمنى وسائر مناسكهم لما روى ابن عمر قال‏:‏ خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال في خطبته‏:‏ ‏[‏إن هذا يوم الحج الكبر‏]‏ رواه البخاري ولأنه يوم فيه وفيما بعده مناسك يحتاج إلى العمل بها فشرعت فيه الخطبة كيوم عرفة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏طواف الزيارة‏]‏

ثم يفيض إلى مكة فيطوف بالبيت طوافا ينوي به الزيارة ويسمى طواف الزيارة وطواف الإفاضة وهو ركن الحج لا يتم إلا به لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وليطوفوا بالبيت العتيق‏}‏ وروت عائشة‏:‏ أن صفية حاضت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏أحابستنا هي‏؟‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله إنها قد أفاضت قال‏:‏ فلتنفر إذا‏]‏ متفق عليه فدل على أنه لا بد من فعله‏.‏

وأول وقته بعد نصف الليل من ليلة النحر لحديث أم سلمة والأفضل فعله يوم النحر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رمى الجمرة أفاض إلى البيت في حديث جابر وإن أخره جاز لأنه يأتي به بعد دخول وقته فإذا فرغ منه حل له كل شيء لقول ابن عمر‏:‏ أفاض بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه يعني‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم وعن عائشة‏:‏ مثله متفق عليهما‏.‏

وإن أفاض قبل الرمي حل التحلل الأول ووقف الثاني على الرمي فإن فات وقته قبل رميه سقط وحل التحلل الثاني بسقوطه وهذا في حق من سعى مع طواف القدوم أما من لم يسع فعليه أن يسعى بعد طواف الزيارة ويقف التحلل مع السعي‏.‏

قال أصحابنا‏:‏ يحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة الرمي والحلق والطواف ويحصل التحلل الثاني بالثالث إن قلنا‏:‏ الحلق نسك وإن قلنا‏:‏ ليس بنسك حصل التحلل الأول بواحد من اثنين وهما الرمي والطواف وحصل التحلل الثاني بالثالث‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏طواف الزيارة للمتمتع‏]‏

قال أحمد رضي الله عنه‏:‏ في المتمتع إذا دخل مكة لطواف الزيارة‏:‏ يبدأ قبله بطواف القدوم ويسعى بعده ثم يطوف للزيارة بعدهما وهكذا القارن والمفرد إذا لم يكونا دخلا مكة قبل يوم النحر ولا طافا للقدوم فإذا دخلا للإفاضة بدآ بطواف القدوم وسعيا بعده ثم طافا للزيارة لأن طواف القدوم مشروع فلا يسقط بتعيين طواف الزيارة إلا أنه قال في المرأة إذا دخلت متمتعة فحاضت فخشيت فوات الحج‏:‏ أهلت الحج وكانت قارنة ولم يكن عليها قضاء طواف القدوم‏.‏

واحتج أحمد رضي الله عنه بقول عائشة رضي الله عنها‏:‏ فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم طافوا طوفا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم متفق عليه قال الشيخ‏:‏ لم يتبين لي من هذا الحديث إلا أن طواف القدوم في حقهم غير مشروع لكونهم لم يطوفوا بعد الرجوع من منى إلا طوافا واحدا ولو شرع طواف القدوم لطافوا طوافين ولأن عائشة لم تطف للقدوم حين أدخلت الحج على العمرة ولم تكن طافت له قبل ذلك لأن طواف القدوم تحية المسجد فسقط بتعيين الفرض كتحية المسجد في حق من دخل وقد أقيمت المفروضة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏يوم الحج الأكبر‏]‏

يوم الحج الأكبر يوم النحر لما تقدم من حديث ابن عمر سمي بذلك لكثرة أفعال الحج فيه فإنه يفعل فيه ستة أشياء‏:‏ الوقوف في المشعر الحرام ثم الإفاضة إلى منى ثم الرمي ثم المنحر ثم الحلق ثم طواف الزيارة والسنة‏:‏ ترتيبها هكذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتبها في حديث جابر وغيره فإن فعل شيئا قبل شيء جاهلا أو ناسيا فلا شيء عليه لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له يوم النحر في النحر والحلق والرمي والتقديم والتأخير قال‏:‏ ‏[‏لا حرج‏]‏ متفق عليه فإن فعل ذلك عالما ذاكرا ففيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ لا شيء عليه للخبر‏.‏

والثانية‏:‏ عليه دم لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله‏}‏ ولأن الحلق كان محرما قبل التحلل الأول ولا يحصل إلا بالرمي‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الرجوع إلى منى‏]‏

ثم يرجع إلى منى من يومه فيمكث بها ليلي أيام التشريق لما روت عائشة قالت‏:‏ أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليلي أيام التشريق‏.‏

وهل المبيت بها واجب أم لا‏؟‏ فيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ ليس بواجب لقول ابن عباس‏:‏ إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت ولأنه مبيت بمنى فلم يجب كليلة عرفة‏.‏

والثانية‏:‏ هو واجب لأن ابن عمر روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته متفق عليه فيدل على أنه لا رخصة لغيره‏.‏

فعلى هذا إن تركه فقال أحمد‏:‏ يطعم شيئا تمرا أو نحوه وخففه وهذا يدل على أنه أي شيء تصدق به أجزأه‏.‏

وعنه في ليلة مد وفي ليلتين مدان‏.‏

وعنه‏:‏ في ليلة درهم وفي ليلتين درهمان لما ذكرنا في الشعر‏.‏

وعنه‏:‏ في ليلة نصف درهم فأما الليلة الثالثة فلا شيء في تركها لأنها لا تجب إلا على من أدركه الليل بها‏.‏

فإن تركها في هذه الحال مع الليلتين الأوليتين فعليه في الثلاث دم في إحدى الروايتين‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏رمي الجمرات‏]‏

ثم يرمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق بعد الزوال كل جمرة في كل يوم بسبع حصيات يبتدئ بالجمرة الأولى وهي أبعدها من مكة وتلي مسجد الخيف فيجعلها عن يساره ويستقبل القبلة ويرميها كما وصفنا جمرة العقبة ثم يتقدم عنها إلى موضع لا يصيبه الحصى فيقف وقوفا طويلا يدعو الله رافعا يديه ثم يتقدم إلى الوسطى فيجعلها عن يمينه ويرميها كذلك ويفعل من الوقوف والدعاء فعليه في الأولى ثم يرمي جمرة العقبة بسبع على صفة رميه يوم النحر ولا يقف عندها لما روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرات إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة يقف عند الأولى والثانية فيطيل المقام ويتضرع ويرمي الثالثة ولا يقف عندها رواه أبو داود ولا يجزئه الرمي إلا بعد الزوال مرتبا للخبر فإن نكسه فبدأ بالثالثة ثم بالثانية ثم بالأولى لم يعتد له إلا بالأولى وإن ترك الوقوف والدعاء فلا شيء عليه لأنه دعاء مشروع فلم يجب كما في سائر المشاعر‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏عدد الجمرات‏]‏

ولا ينقص في سبع والمشهور عن أحمد أن استيفاءها غير واجب‏.‏

وقال‏:‏ من رمى بست حصيات لا بأس وخمس حسن وأقل من خمس لا يرمي أحد واحب إلي سبع لما روى سعد قال‏:‏ رجعنا من الحجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضنا يقول‏:‏ رميت بست وبعضنا يقول‏:‏ رميت بسبع فلم يعب في ذلك بعضنا على بعض رواه الأثرم وعنه‏:‏ أن استيفاء السبع شرط لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بسبع وقال‏:‏ ‏[‏خذوا عني مناسككم‏]‏ فعلى هذه الرواية إن أخل بحصاة من الأولى لم يصح رمي الثانية فإن لم يعلم من أي الجمار تركها حبسها من الأولى ليسقط الفرض بيقين فإن ترك الرمي كله 0حتى مضت أيام التشريق فعليه دم لأنه ترك نسكا واجبا‏.‏

وإن ترك حصاة أو اثنتين فعلى الرواية الأولى لا شيء عليه وعلى الثانية يخرج فيها مثل ما ذكرنا في ليالي منى‏.‏

وعنه‏:‏ من رمى بست ناسيا لا شيء عليه فإن تعمده تصدق بشيء وإن أخر رمي يوم إلى آخر أو أخر الرمي كله إلى اليوم الثالث ترك السنة ولا شيء عليه لكنه يقدم بالنية رمي الأول ثم الثاني ثم الثالث لأن أيام التشريق كلها وقت للرمي فجاز تأخيره إلى آخر وقته كتأخير الوقوف بعرفة إلى الليل وإنما وجب الترتيب بالنية لأنها عبادات يجب الترتيب فيها مع فعلها في أيامها فوجب مع فعلها مجموعة كالصلوات‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏ترك المبيت بمنى ليالي منى ونحوه‏]‏

ويجوز لرعاة الإبل وأهل سقاية الحاج ترك المبيت بمنى ليالي منى وترك رمي اليوم الأول إلى الثاني أو الثالث إن أحبوا أن يرموا الجميع في وقت واحد والرمي في الليل فيرمون رمي كل يوم في الليلة المستقبلة لحديث ابن عمر في الرخصة للعباس وقال عاصم بن عدي‏:‏ رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاة الإبل أن يرموا يوم النحر ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر يرمونه في أحدهما حديث صحيح ولأنهم يشتغلون بالرعاية واستقاء الماء فرخص لهم ذلك وكل ذي عذر من مرض أو خوف على نفسه أو ماله كالرعاة في هذا لأنهم في معناهم لكن إذا غربت الشمس عليهم بمنى لزم الرعاية البيتوتة دون أهل السقاية لأن الرعاة رعيهم في النهار فلا حاجة لهم في الخروج ليلا فهم كالمريض تسقط عنه الجمعة وإن حضرها وجبت عليه وأهل السقاية يستقون بالليل فلا يلزمهم المبيت‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الاستنابة عن الرمي‏]‏

ومن عجز عن الرمي جاز أن يستنيب من يرمي عنه لأن جابرا قال‏:‏ لبينا عن الصبيان ورمينا عنهم والأفضل أن يضع كل حصاة في يد النائب ويكبر النائب فإن رمى عنه ثم برئ لم يلزمه إعادته لأن الواجب سقط بفعل النائب وإن أغمي على إنسان فرمى عنه إنسان فإن كان أذن له جاز وإلا فلا‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏خطبة الإمام يوم النفر‏]‏

ويسن أن يخطب الإمام يوم النفر وهو أوسط أيام التشريق ويعلم الناس حكم التعجيل والتأخير وتوديعهم لما روي عن رجلين من بني بكر قالا‏:‏ رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بين أوسط أيام التشريق ونحن عند راحلته أخرجه أبو داود ولأن بالناس حاجة إلى أن يعلمهم ذلك فشرعت الخطبة فيه كيوم عرفة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏رمي اليوم الثاني‏]‏

وإذا كان رمي اليوم الثاني وأحب أن ينفر نفر قبل غروب الشمس وسقط عنه المبيت تلك الليلة والرمي بعدها وإن غربت وهو في منى لزمته البيتوتة والرمي من الغد بعد الزوال لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه‏}‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه‏]‏ رواه الترمذي واليوم‏:‏ اسم لبياض النهار وإن رحل وخرج ثم عاد إليها لحاجة فلم يلزمه المبيت ولا الرمي لأن الرخصة قد حصلت له بالتعجيل قال بعض أصحابنا‏:‏ يستحب لمن نفر أن ينزل المحصب ثم يدخل مكة لما روى نافع قال‏:‏ كان ابن عمر يصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم يهجع هجعة ويذكر ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه وقال ابن عباس وعائشة‏:‏ ليس نزول الأبطح بسنة إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون أسمح لخروجه متفق عليه وفي لفظ عائشة رضي الله عنها‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏من أراد المقام بمكة‏]‏

ومن أراد المقام بمكة فلا توديع عليه لأن الوداع للمفارق ومن أراد الخروج لم يجز له ذلك يودع البيت بطواف لما روى ابن عباس قال‏:‏ أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض متفق عليه ويجعل الوداع في آخر أمره ليكون آخر عهده بالبيت فإن ودع ثم اشتغل بتجارة أو إقامة لزمته إعادته للخبر‏.‏

وإن صلى في طريقه أو اشترى لنفسه شيئا لم يعده لأن هذا لا يخرجه عن كونه وداعا وإن خرج ولم يودع لزمه الرجوع ما كان قريبا يمكنه الرجوع فإن لم يفعل أو لم يمكنه الرجوع فعليه دم فإن رجع بعد بلوغه مسافة القصر لم يسقط عنه الدم لأن طوافه لخروجه الثاني وقد استقر عليه دم الأول والمرأة كالرجل إلا إذا كانت حائضا أو نفساء خرجت ولا وداع عليها ولا فدية للخبر إلا أن يستحب لها أن تقف على باب المسجد فتدعو في دعاء المودع وإن نفرت فطهرت قبل مفارقة البنيان لزمها التوديع لأنها في البلد وإن لم تطهر حتى فارقته فلا رجوع عليها لأنه لم يوجد في حقها ما يوجبه في البلد‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏ما يستحب للمودع‏]‏

ويستحب للمودع أن يقف في الملتزم بين الركن والباب كما روي عن عبد الله بن عمر أنه قام بين الركن والباب فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه هكذا وبسطها بسطا وقال‏:‏ هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله رواه أبو داود ويدعو فيقول‏:‏ اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك حملتني على ما سخرت لي من خلقك وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بيتك وأعنتني على أداء نسكي فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغبا عنك ولا عن بيتك اللهم فأصحبني العافية في بدني والصحة في جسمي والعصمة في ديني وأحسن منقلبي وارزقني طاعتك ما أبقيتني واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة إنك على كل شيء قدير وما زاد على ذلك من الدعاء فحسن ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم من من ترك طواف الزيارة‏]‏

ومن ترك طواف الزيارة فطافه عند الخروج أجزأ عن طواف الوداع لأنه يحصل به المقصود منه فأجزأ عنه كإجزاء طواف العمرة عن طواف القدوم وصلاة الفرض عن تحية المسجد وإن نوى بطوافه الوداع لم يجزئه عن طواف الزيارة لقوله عليه السلام‏:‏ ‏[‏وإنما لامرئ ما نوى‏]‏ وحكمه حكم من ترك طواف الزيارة يبقى على إحرامه أبدا حتى يرجع فيطوف للزيارة إلا أن إحرامه عن النساء فحسب لأنه قد حل له بالتحلل الأول كل شيء إلا النساء‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏هل في عمل القارن زيادة على عمل المفرد‏؟‏‏]‏

وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد وإن قتل صيدا فجزاؤه واحد‏.‏

وعنه‏:‏ عليه طوفان وسعيان لقول اله تعالى‏:‏ ‏{‏وأتموا الحج والعمرة لله‏}‏ وتمامها بأفعالها ولنا قول عائشة‏:‏ وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا لهما طوفا واحدا متفق عليه وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة لما قرنت‏:‏ ‏[‏يسعك طوافك لحجك وعمرتك‏]‏ رواه مسلم ولأنهما عبادتان من جنس اجتمعتا فدخلت أفعال الصغرى في الكبرى كالطهارتين‏.‏

فصل‏:‏ أركان الحج

الوقوف بعرفة وطواف الزيارة وفي الإحرام والسعي روايتان‏.‏

وواجباته‏:‏ الإحرام من الميقات والوقوف بعرفة إلى الليل والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل والرمي وطواف الوداع وفي الحلق والمبيت بمنى روايتان‏.‏

وسننه‏:‏ الاغتسال وطواف القدوم والرمل والاضطباع فيه واستلام الركنين وتقبيل الحجر والإسراع والمشي في مواضعهما والخطب والأذكار والدعاء والصعود إلى الصفا والمروة‏.‏

وأركان العمرة‏:‏ الطواف وفي الإحرام والسعي روايتان‏.‏

وواجبها‏:‏ الحلق في إحدى الروايتين‏.‏

وسننها‏:‏ الغسل والدعاء والذكر والسنن التي في الطواف والسعي فمن ترك ركنا فلم يتم نسكه إلا به وممن ترك واجبا فعليه دم ومن ترك سنة فلا شيء عليه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏دعاء الرجوع‏]‏

فإذا رجع قال‏:‏ آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قفل متفق عليه‏.‏

ويستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏من زارني أو زار قبري كنت له شفيعا أو شهيدا‏]‏ رواه أبو داود والطيالسي ويصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام‏]‏ وقوله عليه السلام‏:‏ ‏[‏لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى‏]‏ متفق عليه‏.‏